التفضيل بين البخاري ومسلم
عبد الكريم بن عبد اللّه الخضير
أول من صنّف في الصحيح المجرد الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ثم تلاه تلميذه الإمام مسلم بن الحجاج.
وقول الإمام الشافعي: ما على ظهر الأرض كتاب في العلم بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك ([1])، كان قبل وجود الصحيحين([2]). إذا علم هذا فالصحيحان أصح الكتب بعد كتاب الله - عز وجل -.
وجمهور العلماء على أن صحيح البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد لتقدم البخاري في الفن ومزيد استقصائه، ومسلم تلميذه وخرّيجه، حتى قال الدار قطني: لولا البخاري لما راح مسلم ولا جاء([3]). وهذا التفضيل من حيث الإجمال.
وأما من حيث التفصيل، فالإسناد الصحيح مداره على الاتصال وعدالة الرواة، وصحيح البخاري أعدل رواة وأشد اتصالاً، وبيان ذلك:
1- أن الذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم 435 رجلاً، المتكلم فيه بالضعف منهم 80 رجلاً راوياً. والذين انفرد مسلم بالإخراج لهم دون البخاري 620 راوياً، المتكلم فيه بالضعف منهم 160 على الضعف.
2- وأيضاً الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه لم يكثر من التخريج عنهم بخلاف مسلم.
3- وأيضاً الذين تكلم فيهم عند البخاري غالبهم من شيوخه الذين لقيهم وعرفهم وخبر أحاديثهم، بخلاف مسلم فأكثر رواته ممن تقدم عصره، ولا شك أن المرء أعرف بحديث شيوخه من حديث غيرهم.
4- وأيضاً أكثر هؤلاء الذين تكلم فيهم عند البخاري يخرج أحاديثهم في الشواهد بخلاف مسلم، فإنه يخرج أحاديثهم في الأصول وإن كان الإمام مسلم لا يستوعب أحاديث هؤلاء بل ينتقي منها ما وُوْفِقَ عليه([4]).
5- وأما ما يتعلق باتصال الإسناد، فمسلم كان - رحمه الله - مذهبه، بل نقل فيه الإجماع في مقدمة صحيحة([5]). أن الإسناد المعنعن له حكم الاتصال إذا تعاصر المعنعنُ ومن عنعن عنه وأمكن اجتماعهما، والبخاري لا يحمله على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة([6])
وحكى القاضي عياض - رحمه الله - في إكمال المعلم ([7]) عمن لم يسمّه من المغاربة وسماه الحافظ ابن حجر في نكته على ابن الصلاح ([8]): القاسم التجيبي في فهرسته ([9]) أنهم فضلوا صحيح مسلم على صحيح البخاري.
وهذا القول منسوب إلى الحافظ أبي علي الحسين بن علي النيسابوري([10]). وعلل ابن حزم تفضيل مسلم على البخاري بأنه ليس فيه بعد الخبطة إلا الحديث السرد([11]).
وهذا غير راجع إلى الأصحيَّة بل راجع إلى التجريد، فإذا استثني من صحيح البخاري المعلقات والموقوفات ونحوها لم يتجه ما قاله ابن حزم.
وأما المنقول عن أبي علي النيسابوري ولفظه: ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم([12]).
فأجيب عنه: بأنه لا يقتضي ترجيح مسلم على البخاري بل ينفي أن يوجد أصح منه دون المساوي له، ولذا لا يحسن أن ينسب إليه الجزم بالأصحية([13]).
قال الحافظ العراقي:
أول من صنف في الصحيح *** محمد وخُصَّ بالترجيح.
ومسلم بعد وبعض الغرب *** مع أبي علي فضلوا ذا لو نفع.
وهذه المفاضلة لا تعني أن كل حديث في البخاري أصح من كل حديث في مسلم، بل قد يوجد في صحيح مسلم أحاديث أصح من أحاديث في البخاري، لكن الأصح في البخاري أكثر فلذا ترجح على صحيح مسلم. ثم يلي ما خرّجه مسلم في صحيحه ما حوى شرطَهما.
وقد اختلف العلماء في المراد بشرط الشيخين على أقوال:
1- فذهب الحافظ ابن حجر في النزهة أن المراد به رواتهما مع باقي شروط الصحيح([14]). وبهذا قال ابن الصلاح([15]) والنووي([16]). وابن دقيق العيد([17]) والذهبي([18]).
قال السخاوي: ويقوِّيه تصرف الحاكم في مستدركه، فإنه كان عنده الحديث قد أخرجا معاً لرواته فإنه يقول: صحيح على شرط الشيخين أو أحدهما. وإذا كان بعض رواته لم يخرجا له قال صحيح الإسناد حسب، أي لا يقول على شروطهما ولا على شرط أحدهما([19]).
2- وذهب الحاكم أبو عبد الله إلى أن شرطهما أن يروي الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحابي زائل عن اسم الجهالة بأن يروي عنه تابعيان عدلان، ثم يروي عنه التابعي المشهور بالرواية عن الصحابة وله راويان ثقتان ثم يرويه عنه من أتباع التابعين حافظ متقن وله رواة من الطبقة الرابعة، ثم يكون شيخ البخاري أو مسلم حافظاً مشهوراً بالعدالة في روايته([20]). واعترض على هذا القول بما في الصحيحين من الغرائب مثل حديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) على ما تقدم([21]).
3 - وقال ابن طاهر في شروط الأئمة الستة: شرط البخاري ومسلم أن يخرجا الحديث المجمع على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور ([22]).
واعترض على هذا القول بأنهما قد خرّجا لبعض من مُسّ بضرب من التجريح([23])
4 - وقال الحازمي: شرط البخاري أن يخرج ما اتصل إسناده بالثقات المتقنين الملازمين لمن أخذوا عنه ملازمة طويلةً. وقد يخرج أحياناً عن أعيان الطبقة التي تلي هذه في الإتقان والملازمة لمن رووا عنه فلم يلزموه إلا ملازمة يسيرة وهو شرط مسلم، وقد يخرج مسلم حديث من لم يسلم من غوائل الجرح إذا كان طويل الملازمة لمن أخذ عنه([24]).
قال الحافظ العراقي:
وأرفع الصحيح مرويهما *** ثم البخاري فمسلم فما
شرطهما حوى فشرط الجعفي *** فمسلم فشرط غير يكفي ([25])
وقال الحافظ ابن حجر خرَج لنا من هذا ستة أقسام:
1- ما اتفق الشيخان على إخراجه.
2- ما انفرد البخاري بإخراجه.
3- ما انفرد مسلم بإخراجه.
4- ما كان على شرطهما معاً.
5- ما كان على شرط البخاري.
6- ما كان على شرط مسلم.
وثمت قسم سابع وهو ما صح مما ليس على شرطهما اجتماعاً وانفراداً([26])
____________
[1] - آداب الشافعي ومناقبه، لابن حاتم ص 196، ومناقب الشافعي للبيهقي 1/507.
[2] - قاله ابن الصلاح في علوم الحديث ص 14.
[3] - تاريخ بغداد 13/ 102.
[4] - انظر: شرح النووي على مسلم 1/16، والنكت على ابن الصلاح لابن حجر 1/286-289، وهدى الساري ص 11.
[5] - انظر المسألة في: صحيح مسلم 1/127 144 مع شرح النووي.
[6] - استفاض نقل هذا القول عن الإمام البخاري - رحمه الله - وأنكر بعض المعاصرين، وليس هذا محل تحرير المسألة.
[7] - إكمال المعلم 1/80.
[8] - النكت 1/282.
[9] - فهرست التجيبي ص 93.
[10] - تاريخ بغداد 13/ 101 وشرح النووي على مسلم 1/14.
[11] - فهرست التجيبي ص 93.
[12] - تاريخ بغداد 13/ 101، وعلوم الحديث لابن الصلاح ص 14 15، وشرح النووي على مسلم 1/14.
[13] - نزهة النظر ص 86، وفتح المغيث 1/28.
[14] - نزهة النظر ص 89.
[15] - علوم الحديث ص 18، وصيانة صحيح مسلم ص 99.
[16] - شرح مسلم 1/ 26.
[17] - انظر: التقييد والإيضاح ص 30، والنكت لابن حجر 1/ 319-321.
[18] - انظر المرجعين السابقين.
[19] - فتح المغيث 1/48.
[20] - معرفة علم الحديث ص 62، والمدخل له ص 87.
[21] - ص 53.
[22] - شروط الأئمة الستة لابن طاهر ص 10.
[23] - انظر ما تقدم قريباً ص 60.
[24] - شروط الأئمة الخمسة لابن طاهر ص 43 47.
[25] - ألفية العراقي رقم (37).
[26] - نزهة النظر ص 90.